ثلاثون سنة من الوهم بسطات.. مدينة خارج التاريخ وداخل مستنقع للفساد

سطات، هذه المدينة التي يُفترض أن تكون قلب الشاوية ونقطة وصل بين أقطاب المغرب، تحولت إلى مختبر حقيقي للفشل التنموي ولعطب الدولة في أضعف تجلياته، أو حين ينجلي الخيط الرفيع على القول السديد لصاحب الجلالة، في خطابه للعرش بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين على تربعه عرش أسلافه المنعمين، “لا مكان اليوم ولا غدا، لمغرب يسير بسرعتين”.
سادتي الكرام؛
ثلاثون سنة من التسيير داخل مختلف مؤسسات مدينة سطات سواء منتخبة أو معينة، لم تُنتج سوى تراكمات من الرداءة؛ وجوه تتغير ومناصب تتناوب، لكن البنية العميقة ثابتة: لا رؤية، لا استراتيجية، ولا قدرة على تحويل الإمكانات إلى مشاريع ملموسة. المفارقة أن كل ما يحدث داخل سطات، ليس سوى إعادة إنتاج ممل لنفس المسرحية: وعود انتخابية جوفاء، شعارات رسمية بلا مضمون، وبرامج حكومية تبقى على الورق، بينما الواقع يتدهور بوتيرة صادمة.
المدينة، التي كان من الممكن أن تكون قطباً فلاحياً وصناعياً وتعليمياً، صارت مجرد نقطة باهتة على الخريطة التنموية. فلا هي طورت فلاحتها إلى منظومة حديثة قائمة على البحث العلمي والتسويق العالمي، ولا صنعت لنفسها هوية صناعية قادرة على امتصاص البطالة وخلق القيمة المضافة، ولا حتى استفادت من وجود جامعة وطنية، كان يُفترض أن تكون رافعة للمعرفة والابتكار. كل ما بقي هو مدينة خاملة، تستهلك ولا تنتج، تعيش على فتات التحويلات وتقتات على الريع السياسي.
سادتي الكرام؛
الأدهى، أن ما يُسوق من منجزات لا يتجاوز مستوى العبث: إنارة شارع تتحول إلى إنجاز تاريخي، ترقيع حفرة يصبح خبراً يستحق الاحتفاء، وتدشين مشروع بائس يقدَّم كفتح تنموي. هذا لا يعبّر فقط عن غياب المشاريع الكبرى، بل يكشف عقلية كاملة تُدير المدينة وكأنها قطعة غنيمة، حيث الأولوية لتوزيع المنافع والمصالح بين لوبيات اتفقت على التناوب على ثديي هذه البقرة، بدل التفكير في تنمية حقيقية. النتيجة المباشرة هي هدر مستمر للموارد، واستنزاف للميزانيات، وفساد يتغذى من غياب أي آلية فعالة للمحاسبة.
الساكنة رهينة بين طبقة سياسية فقدت شرعيتها الأخلاقية، وإدارة ترابية تشتغل بمنطق المسكنات، ووزارات وصية ممثلة للقطاع الحكومي، تعتبر سطات مجرد هامش يمكن أن يُترك للنسيان. المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية تؤكد أن المدينة تسير بخطى ثابتة نحو الهامشية المطلقة: بطالة متصاعدة، تعليم مترهل، نسيج اقتصادي هش، وهجرة متزايدة للشباب نحو المدن الكبرى.
سادتي الكرام؛
هذا ليس عطباً عابراً، بل هو انهيار ممنهج، تتحمل مسؤوليته دولة لم تنجح في فرض النموذج التنموي على مستوى التراب المحلي، تتحمل مسؤوليته الدولة لعدم مواكبتها للتنزيل الفعلي لتقليص الفوارق المجالية، ونخب سياسية جعلت من المدينة بقرة حلوب بلا مستقبل.
الخطر في سطات ليس فقط في غياب التنمية، بل في استقرار حالة من الاعتياد على الرداءة؛ حيث يقتنع المواطن أن الحفرة جزء طبيعي من الشارع، وأن الانقطاع المتكرر للماء أو الكهرباء أمر عادي، وأن غياب الاستثمار قدر محتوم. حين تُصبح الرداءة ثقافة عامة، تتحول المدينة إلى مقبرة حية، تُنتج مواطنين مُستقيلين، فاقدين للأمل والإرادة، وهذا أخطر من أي مؤشر اقتصادي.
سادتي الكرام؛
إن سطات اليوم ليست مجرد مدينة متأخرة، بل نموذج مصغر لفشل لمختلف النماذج التنموية في بعدها الترابي. إذا كان المغرب يتحدث عن إقلاع اقتصادي وتنمية شاملة، فإن استمرار وضع سطات بهذه الصورة هو تناقض بنيوي ينسف الخطاب الرسمي من أساسه. كيف يمكن لدولة تتبجح بالمشاريع الكبرى، أن تعجز عن إنقاذ مدينة متوسطة من براثن الجمود والفساد؟ وكيف يمكن لمواطن أن يثق في المستقبل وهو يرى حاضره يُدار بالعبث؟ كيف يمكن لمواطن أن يطمئن على مستقبل فلذات كبده وهو يشاهد تاريخ المدينة أمجد وأكثر كرامة من حاضرها ومستقبلها؟
ختاما سادتي الكرام؛
سطات ليست ضحية الجغرافيا ولا ضعف الإمكانات، بل ضحية منظومة كاملة تواطأت على إفراغ التنمية من معناها، واستمرار هذا الوضع يعني أن المدينة ستظل خارج الزمن، وستبقى رمزاً صارخاً على أن التنمية في المغرب ليست مشروعاً وطنياً شاملاً، بل مجرد عملية انتقائية تُكرس المركز وتدفع بالهامش إلى النسيان.
إن أسوأ ما يمكن أن يحدث لمغرب يشق طريقه وهو يتدافع مع الأمم نحو المراتب الأولى، هو تلك الحصوات التي تتسلل إلى حذائه، فتدمي قدميه وتعرقل سيره، وأن إحدى تلك الحصوات المزعجة، التي تدمي قدمي المغرب، هو ترك مدينة سطات خارج الخريطة التنموية لهذا الوطن، ما يقتضي تدخلا جادا للدولة لبثر مختلف الوجوه من الحرس القديم، التي ظلت تقتات من هذه المنظومة وتراهن على استمراريتها لضمان ديمومة استفادتها.