الحلقة الثانية: المراحل الجنينية والمؤسسة للوعي والمطالبة بالحقوق الثقافية الأمازيغية

إن المطالبة بأي حق من الحقوق لا تأتي وليدة للصدفة أو بشكل عبثي تحكمه التلقائية، وإنما تأتي نتيجة إرادة ووعي جمعيين، تتحكم الظروفالسوسيولوجية والتاريخية في تحديد شكلها: منظم/ غير منظم
وتحديد ماهية الوعي بها: فردي/ جمعي
خاصة عندما يتعلق الأمر بأحد الحقوق الثقافية التي تمس بشكل مباشر الإنسان في شعوره بالانتماء ووجوده، من ذلك حقه في التواصل بلغته، وما لذلك من أبعاد اجتماعية، وجدانية، سياسية وقيمية.
والمغرب بدوره لم يشكل استثناء من كل الإشكالات والمعيقات التي تدور حول المسألة الثقافية، التي أسالت مداد مختلف الشرائع الفكرية والسياسية بين مناصر ومعاد للازدواجية اللغوية في المغرب. إذ يتعلق الأمر بـ "مسالة وطنية وواجب وطني وحضاري لأنها تمس إحدى اللغات الأم لمجموعة كبيرة من المغاربة تتألف على الأقل من %35 إلى %40 من مجموع سكان المغرب"[1]. فحرمان الفرد من التواصل بلغته الأم لا يولد عنده الشعور بالإقصاء فحسب، بل قد تمتد عواقبه إلى انشطار وتعصب قوميين، فكريين وإيديولوجيين.
وهنا تكمن ضرورة الانتقال من الوعي الجماعي إلى ذلك الفردي وخطورة عدم حدوثه، انتقال تنتظره في المنعرجات عوائق تكاد تحرف مساره الصحيح.
تداخل سياسي والثقافي وسؤال منفي خدمة الآخر؟
طبيعة المجتمع المركبة.
الشيء الذي سنحاول دراسته من خلال حالة: "الحقوق الثقافية الأمازيغية" وكيف تبلورت متخطية العقبات المشار إليها أعلاه عبر نشأة الحركة الثقافية الأمازيغية أولا كإطار لعب دوره الرائد والمتأني في الانتقال بالوعي بهذه الحقوق من شكله التقليدي إلى ذلك العصري (المطلب الأول) متناولين بالدراسة أهم البيانات المتعلقة بالموضوع والتي شكلت الحجر الاساس لتعميق الوعي بهذه الحقوق وتوجيهه ليتحول إلى فعل (المطلب الثاني).
المطلب الأول: مسار الحركة الثقافية الأمازيغية بالمغرب في ترسيخ الوعي الصحيح بالحقوق الثقافية الأمازيغية
غادر الاستعمار- كقوة احتلال عسكرية واقتصادية- المغرب مخلفا وراءه تمزقا سياسيا وثقافيا نخر البناء الاجتماعي المغربي دولة ومجتمعا، فنجح في فصله عن كيانه وحضارته وإخضاعه/ إدماجه في كيانه كمستعمر. فكان أن تحكمت في مغرب ما قبل السبعينات مظاهر القبلية والتعصب وخدمة الثقافي للسياسي وتسخير القضايا – بقصد أو بغير- قصد الثقافية للحسابات السياسية والإيديولوجية تارة بدريعة المحافظة على الوحدة الوطنية وأخرى بوازع إقصاء الأمازيغية من الهوية المغربية.
ولعل هذا ما تحكم في تعثر مسار تشكل الوعي الصحيح بالهوية الأمازيغية، فكان طعم الظهير البربري نقطة البداية: بداية المرض الإيديولوجي وتسخير الثقافي السياسي. فصاحب نضال الحركة الوطنية وهي تطالب بالاستقلال خطابا يربط الصورة السلبية للاستعمار والفرنسية والمسيحية بالأمازيغية معتبرة إياه الدراع القوي للمستعمر، المعادية للوحدة الوطنية، الشيء الذي لم تكن ضحيته لأكبر إلا الأمازيغية في سيرورة التحول من دولة تقليدية إلى دولة عصرية، بل امتدت مخلفات كل ذلك، في خضم هذا التحول، إلى تكريس النزعة القبلية –كرد فعل تلقائي- واستمرار الوعي التقليدي الذي نذكر منه جملة مظاهره التركيز على المظاهر الخارجية للهوية يتضح ذلك جليا من خلال عدة محطات نقدمها كما أحصاها الدكتور الحسن وعزي في أطروحته نشأة الحركة الثقافة الأمازيغية بالمغرب:
1-بروز مظاهر التآزر والتضامن القبلي في الانتماء الحزبي ومغادرته:
الحركة الشعبية كمثال: "حيث تم استغلال تمرد تافيلالت وأحداث الريف لسنتي 1958 و1959، لممارسة الضغط قصد إضعاف حزب الاستقلال وحكومته وتقوية جانب الملك في صراعه مع هذا الحزب… وهكذا تأسست الحركة الشعبية بالاعتماد على العقل التعبوي للمنظومة الثقافية الأمازيغية في شكلها التقليدي وتبنت وهي الحكم المنظومة الثقافية السائدة التي لا محل فيها للأمازيغية، واستمرت الحركة الشعبية في هذا الاتجاه واستغل أمينها العام المنظومة الثقافية الأمازيغية ضد خصومه للانفراد بالزعامة"[2].
2-الانتماء الجماعي القبلي لأهل سوس لحزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية
3- أزمة الأمازيغ في تحديد وإيجاد الهوية داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (اصطدام تكوينهم الديني بالخيار الثوري اليساري التقدمي لقادته).
– تأسيس منظمات تعتمد الاثنية كأساس للاستقطاب:/ (مثال الحزب الحر التقدمي وحزب العمل)
فكانت نتيجة هذا التداخل الغير الصحي للسياسي بالثقافي أن تم الابتعاد عن العناصر العميقة للهوية (الثقافة واللغة). إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه في ظل هذه الفترة التي تدهورت فيها اللغة الأمازيغية هوية وثقافة ووسيلة كلامية: "أين مسؤولية المثقف؟
إننا على وعي بصعوبة وحساسية المرحلة الحقوقية والسياسية التي مر منها المغرب في فترة الستينات مما يجعلنا نستنكف أن نذهب بالسؤال لمجراه/ بعده الثقافي المحض فنصب جام لومنا على المثقف المندمج أو نعتب على المثقف الثوري (من منظور جون بول سارتر) أو ننسب سكوته أو نقده الهادم أو الساعي للبناء لطبيعته الملتزمة أو تلك النضالية بل كل ما يمكن أن نجانب به الصواب أن هذا السكوت/ التحفظ والغياب/ التغيب لكلمة المثقف في هذه القضية وهذه الفترة ما هو إلا جزء من كل. فالمجتمع بمكوناته السياسية والثقافية لم يكن يتمتع حينها بالحرية المتوفرة اليوم، بل ابعد من ذلك فقد شكلت الحقوق التي يتمتع بها المجتمع اليوم بالأمس القريب معيقات تعرقل النظام العام وتقود صاحبها في حالات إلى دفع السجن ثمنا لما يؤمن به ويعتقد، فحرية المثقف من حرية المجتمع.
إلا أن الوضع لن يدوم على حاله، والمدخل للتحول من الوعي التقليدي إلى ذلك العصري سيكون ثقافيا لا محالة، وفي هذا الصدد نستحضر محاضرة كل من كارل بوبر سنة 1989 ومحاضرة إدموند هوسرل سنة 1935م بفيينا واللتان أثارتا مسؤولية الفيلسوف والمثقف تجاه الديمقراطيات والقوميات وتنامي العنف العرقي، وذلك من خلال نوعين من العمل: فردي وجماعي خرجا بالوعي بالهوية الامازيغية من صورته السلبية التي لا تولد إلا اليأس والقلق وتزيد من حدة الاحتقان إلى صورته الإيجابية، أما بالنسبة للأعمال الفردية فنذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
*مقالات الاستاذ محمد شفيق بمجلة "آفاق" التي يصدرها اتحاد كتاب المغرب والتي حاول أن يطرح من خلالها البعدين الإسلامي والأمازيغي في تجليهما في الخطاب والإيديولوجية؛
*ديوان "أمار" الصادر سنة 1968 للأستاذ أحمد أمزال، هذا الذي دافع من موقعه على ضرورة إدماج اللغة الأمازيغية في التعليم؛
*الأعمال الفنية للرايس الحاج بلعيد والتي ما فتئ يستنكر من خلالها القمع الثقافي…
ثم- كأحد وأهم مظاهر العمل الجماعي- جاء تأسيس الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي بتاريخ 10 نونبر 1967 كخطوة رصينة أعادت منطق الدفاع عن الثقافة الوطنية لوضعه الصحيح. هذه التي لا تتحدد من حيث العرق أو الأرض أو الموقع بل من اللغة !فكان أن بدأت بتدوين الأمازيغية كمرحلة أولى.
وهكذا كانت البداية الجنينية للحركة الثقافية الأمازيغية فنشأت جمعيات جديدة- آنذاك نذكر منها:
جمعية الانطلاقة الثقافية بالناظور في يناير 1978،الجمعية الجديدة للثقافة والفنون الشعبية بالرباط في أكتوبر 1978؛جمعية الجامعة الصيفية بأكادير في أكتوبر 1979؛الجمعية الثقافية أمازيغ سنة 1979 بالرباط؛الجمعية الثقافية لسوس سنة 1980 بالدار البيضاء
فستعمل -ساعية إلى تعميق الوعي العصري بالهوية الأمازغية- على تعميم ونشر أنشطتها من خلال تنظيمها لعدة تظاهرات ثقافية ذات الصلة بالموضوع وكذا إصدار كتب بالأمازيغية وعنها بمجالات علمية، جانبا إلى تأسيس فرق موسيقية.
فأدى هذا التلاحم بين الأعمال الفردية وتلك الجماعية إلى هذه الطفرة الإيجابيةلطرح مسالة الهوية الأمازيغية في شكلها الصحيح من خلال شكلين من التعبئة: خاصة (ذاتية) وذلك عبر إعادة الاعتبار للأمازيغية كلسان متكلم وثرات (شعرا ونثرا)، وعامة (وطنية): وذلك عبر نقد مواقف الأحزاب والحركة الوطنية مقحمة عبر ذلك عنصر الثقافة الشعبية فما يلاحظ على هذا الشكل الأخير من التعبئة انه أعاد إدخال السياسي لخدمة الثقافي.
إن هذا الشكل الجديد من الدفاع عن الهوية الأمازيغية وهو متوجه للمجتمع بكافة بنياته الفوقية والتحتية وقواه الحية فإنه كان محط أخذ وجذب بين ردود فعل سلبية (التخوين- التشكيك في مصداقية المطالب…) وأخرى إيجابية (من ذلك مواقف شخصيات فكرية: جسوس وعبد الكريم غلاب…)
المصادر
1محمد جسوس، طروحات حول الثقافة واللغة والتعليم، منشورات الأحداث المغربية، 2004، ص 89.
2الحسين وعزي، نشأة الحركة الثقافية الأمازغية بالمغرب (1967-1991) سيرورة تحول الوعي بالهوية الأمازيغية من الوعي الجماعي إلى الوعي العصري