محكمة السوشيال ميديا.. العدالة في زمن الأحكام الجاهزة

بقلم: محسن الزهراوي.. مواطن يرفض أن تتحول العدالة إلى حقد، وأن يكون القانون أداة انتقام بدل أن يكون درعًا للحق.
في كل مرة يهتز فيها الرأي العام على وقع حادث مؤلم، تطفو على السطح ملامح مجتمع مثقل بالأحقاد، مسكون بالانفعالات، وجاهز دائمًا لتحويل أي خطأ فردي إلى محاكمة جماعية بلا قانون ولا ضمير. هذا ما كشفته بوضوح قضية الطفلة غيثة التي تعرضت لحادث دهس مؤلم بعجلة سيارة على الشاطئ، حادث مؤسف لا يمكن إلا أن يُدان، والمتسبب فيه يجب أن يُحاسب بلا تردد. لكن المفزع في القصة لم يكن الحادث نفسه فقط، بل ردّ فعل الناس، وتحولهم من متعاطفين إلى متشفين، ومن مطالبين بالعدالة إلى جلادين افتراضيين، يصدرون الأحكام بلا رفق، ويوزعون الكراهية كما لو كانت عدالة.
حين يكون المخطئ شخصًا ميسورًا، أو ينتمي لطبقة اجتماعية مريحة، تتحول الغلطة في نظر البعض إلى فرصة لتفريغ الغضب، وتصبح محاكم التواصل الاجتماعي مكانًا لتصفية الحسابات الطبقية، وكأن الغنى في حد ذاته تهمة. يتم تقديم الجاني على أنه رمز للفساد، والمجتمع على أنه ضحية دائمة، والحقيقة تضيع وسط التهييج، والناس تنسى – أو تتناسى – أن المسؤولية فردية، وأن المحاسبة يجب أن تتم باسم القانون لا باسم “الشعب الغاضب”.
لا أحد فوق القانون، والمحاسبة واجبة، لكن العدالة لا تُبنى على الكره، ولا تتحقق بالشتم ولا بالتحقير، لأن التحامل لا ينتج عدلًا، بل يكرس الفوضى. المؤلم أن أغلب من يرتدون رداء النزاهة في مثل هذه اللحظات، غالبًا ما يتحولون إلى دعاة للانتقام، وينسون أن من بين الأغنياء أناسًا محترمين، ومن بين الفقراء من يخطئون أيضًا. الظلم ليس حكرًا على طبقة، كما أن البراءة ليست حكرًا على أخرى. والقيم لا تُقاس بعدد المتابعين، ولا بحجم السيارة، بل بالفعل والخطأ، بالحقيقة والمبدأ.
حين تسقط الرحمة، ويغيب العقل الجماعي، تتحول الكارثة إلى مسرحية، والضحية إلى شعار، والجاني إلى مادة للسبّ والتشهير، دون محاكمة، دون تروٍّ، ودون احترام لأبسط شروط العدالة التي ننادي بها في كل مناسبة. لقد أصبح البعض لا ينتظر الحقيقة، بل فقط اسم الفاعل، فإن كان من الأغنياء، فقد صدر الحكم: مذنب، متكبر، فاسد… وإن كان من عامة الناس، فربما نلتمس له الأعذار.
إن هذا الانفعال الجماعي الموجه لا يخدم العدالة، بل يُفرغها من معناها. العدالة تتطلب ميزانًا لا يميل مع العاطفة، وضميرًا لا يسقط في فخ الانتقام المقنّع. وقد قال الله تعالى: “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى.” فالعدل لا يعني أن نشمت في المذنب، ولا أن نحقد على الميسور، بل أن نحاسب كل شخص بما اقترفت يداه، لا بما يرتديه أو يملكه.
العدالة الحقيقية تتجلى عندما نقف جميعًا على مسافة واحدة من الجميع، نطالب بالعقوبة إذا ثبت الذنب، ونطالب بالرحمة إذا كان في الأمر التباس، ونحفظ للناس كرامتهم وإن أخطؤوا. لأن المجتمع الذي يتلذذ بسقوط الآخر، حتى قبل أن يُدان، هو مجتمع مريض، متعطش للتشفي أكثر من العدل، وهارب من مشاكله نحو جلد الآخرين.
لقد آن الأوان أن نراجع ذواتنا كمجتمع، وأن نفهم أن القانون ليس وسيلة لتصفية الأحقاد، ولا للثأر الطبقي، بل هو صمام الأمان للجميع. وأن العدالة، إن لم تكن متحررة من المشاعر الغريزية، تتحول إلى ظلم جماعي مغلف بشعارات زائفة. المطلوب أن ننتصر لغيثة، نعم، لكن بانتصارنا للحق، لا بإسقاط كل فشلنا الاجتماعي على المتهم، ولا بتحويل المأساة إلى ساحة للفرجة أو لإثبات الطهارة الزائفة.
كلنا نريد الإنصاف. وكلنا نرفض الإفلات من العقاب. لكن هل نريد ذلك حقًا… أم أننا فقط نبحث عن ضحية نعلق عليها مرارة ما لم نحققه في حياتنا؟ الجواب في ضمير كل واحد منا.