المسايرية.. نساء تقتفين آثار آلات الحصاد لنيل نصيبهن من زكاة الحبوب بإقليم سطات

المسايرية.. نساء تقتفين آثار آلات الحصاد لنيل نصيبهن من زكاة الحبوب بإقليم سطات

تحت لهيب شمس حارقة، تنشر خيوطها على مساحات شاسعة من الأراضي الفلاحية، ورغم المجهود البدني اللافت لشباب ونساء وشيوخ يتقاسمون الأدوار في لحظة تمثل بالنسبة لهم "راس العام" أو لحظة حصاد ما زرعتهم أيديهم، إلا أن الضحكات لا تفارق أفواههم، ومع كل توقف لا يتجاوز الثواني يمسحون عرقا يتصبب بغزارة على جبينهم ويلقون قفشات تنتزع ضحكات مجلجلة يختلط صداها بصوت محرك الجرار.

غير بعيد عن مشهد "الحصادة" وطقوسهم الخاصة، تنزوي نسوة تحت شجرة يحتمين بظلها ويعتمرن قبعات شمسية تقليدية مصنوعة من الدوم (تارازة)، ويضعن لثاما على وجوههن، يجعل من تحديد هويتهن أمرا مستحيلا، وبجانبهن أكياس حبوب فارغة، وأعينهن مصوبة نحو آلة الحصاد، ومركزة على يدي شيخ يبدوا من حركات يديه المتكررة بأنه من ينسق عملية الحصاد إن لم يكن هو صاحب المحصول الزراعي، في انتظار إشارة لهن تعني قطع 500 متر نحو مكان تفريغ الحبوب من الآلة ركضا.

على امتداد الحقول التي زرناها على مستوى الطريق الوطنية رقم 9 الرابطة بين سطات ومراكش، يتكرر المشهد تقريبا في كل حقل، فلاحون منهمكون في عملية الحصاد ونساء ورجال ينتظرون متأبطين أكياس حبوب فارغة، إنهم "المسايرية" ويطلق عليهم البعض "الباكرية"، أو بركة الغلة التي تجود بها الأرض والسماء.

"المسايرية" جزء لا يتجزأ من طقوس الحصاد

هم جماعات تتشكل في أغلبها من النساء، يطوفون الحقول الزراعية لحظة الحصاد، وينتظرون انتهاء العملية للاستفادة من الزكاة التي يمنحها أصحاب المحاصيل الزراعية، والتي يفضلون إخراجها مباشرة بعد عملية تجميع الحبوب داخل الأكياس، ولقبوا بهذا الاسم دلالة على مسيرهم بين حقول شاسعة من أجل نيل الزكاة، والبعض يلقبهم ب "الباكرية"، لأنهم يبكرون في الاستيقاظ ويلتحقون بالحقول مع انطلاق عملية الحصاد ولا يبارحون المكان حتى ينالوا حصتهم من "العشار".

من المستحيل تمييز "المسايرية" بسبب تفضيلهم ارتداء أزياء غامقة، وتغطيتهم لوجوههم، الأمر الذي يرجعه بعض الفلاحين إلى كون عدد كبير منهم يحترف طلب الزكاة مع موسم الحصاد رغم كونهم غير معوزين، لكن الفلاحين يتعاملون بمرونة مع الأمر مع استحضار أن "المسايرية" يقطعون كيلومترات عديدة ليصلو هنا، وطقوس عملية الحصاد لا تسمح بالتدقيق في هوية والوضع الاجتماعي لطالبي الزكاة.

"التريبورتور" ليس مجرد وسيلة نقل

على الطريق الوطنية رقم 9، وعلى بعد حوالي عشر كيلومترات عن مدينة سطات عاينت الجريدة أعداد كبيرة من "المسايرية" يسرعون الخطى نحو أقرب مركز سكاني لجماعة اخميس سيدي امحمد بن رحال، ويحملون على أكتافهم أكياس نصف مملوءة من الحبوب، يبدو المشهد غريبا للوهلة الأولى لأنهم يولون ظهورهم لمدينة سطات حيت ينتمي أغلبهم، ولكون المدينة هي أقرب مكان لموقعهم الحالي، لكن سرعان ما تنجلي الغرابة مع معاينة عشرات الدراجات ثلاثية العجلات مصطفة على جانب الطريق وبعضها مخفي وسط أشجار وافرة غير بعيدة عن الطريق الرئيسية، تنشط لحظتها النساء المحملات بالأكياس في تفريغ محتوياتها داخل أكياس أخرى بعربات الدراجات، تم يعدن لاختراق الحقول قبل أن تغبن عن الأنظار ولا تعدن إلا بعد مرور ساعة من الزمن محملات بأكياس أخرى. وتستمر العملية حتى بعد زوال اليوم مع توقف آلات الحصاد عن الاشتغال.

يخبرنا "ميلود" سائق دراجة ثلاثية العجلات بأنه يقطن بحي سيدي عبد الكريم، ومنذ حوالي الشهر حول نشاطه من نقل البضائع بأسواق المدينة، إلى نقل "المسايرية" نحو الحقول الزراعية، ويضيف "ميلود" بأن يشتغل مع مجموعة تتكون من 5 نساء يقطن بنفس الحي الذي يسكنه، وكل يوم تنطلق رحلته معهم من الرابعة صباحا ولا يعودون إلى في حدود الرابعة بعد الزوال، يلخص "ميلود" دوره في نقل جاراته إلى حقول كلما ابتعدت عن المدينة بشكل كاف كان أفضل، بسبب المنافسة الكبيرة التي أصبحت مستعرة بين "محترفي" طلب الزكاة من "الحصادة"، ويضيف متحدتنا بأنهم يشتغلون وفق مخطط واضح بحيث يختارون خطا طرقيا يقضون فيه خمسة أيام تم يحولون إلى خط آخر، وعن ما يجنيه من أرباح من هذا العمل أجاب بابتسامة ساخرة بأنها "بركة سيدي ربي" و"العشار ديال الحصادة" وبعد إلحاح من أجل المزيد من التدقيق أكد بانه يأخذ أجره حبوبا من عند "المسارية" لحظة توصيلهم عند باعة الحبوب بالجملة لكي يبيع حصته هو الآخر لتجار الحبوب.

طالبات حق في الزكاة ..

في حدود الرابعة صباحا، تبدوا شوارع مدينة سطات فارغة إلا من بعد المركبات تقطع بين الفينة والأخرى الطرق بسرعة فائقة، يكسر هذا السكون حركة غير عادية وخصوصا عند ملتقى الطرق المجاور لحي سيدي عبد الكريم شرق المدينة، وقرب المقاطعة الحضرية لحي لالة ميمونة، دراجات ثلاثية العجلات تتقاطر على المكان وتحمل أشخاصا يبدوا بأنهم كانوا على موعد سابق معهم تم تنطلق لاختراق الأزقة والشوارع إلى أحد مخارج المدينة، عدد من هذه الدراجات يختار طريق الجديدة حيت الحقول الممتدة لقبائل اولاد سعيد، وآخرون يختارون طريق مراكش حيت تتواجد حقول قبائل أولاد بوزيري، وبجوارها طريق ثانية تقود نحو البروج حيث تتواجد حقول شاسعة لقبائل بني مسكين، واخرون يتخذون طريق البيضاء حيت حقول قبائل المزامزة، فيما يتجه البعض لطريق خريبكة حيث حقول قبائل امزاب.

من الصعب تحديد ملامح ركاب هذه الدراجات فالقاعدة هنا ألا يعرف أحد الآخر، بالكاد استطعنا إقناع سيدة بالحديث إلينا، واكتشفا أنها لا تزال شابة ولم تتجاوز عقدها الثالث، تخبرنا "سعاد" وهو على الأغلب أسم استعارته تجنبا للإحراج، بأنها مطلقة وأم لطفلين، وتضيف بأن هذه سنتها الثانية التي تخرج لجمع الزكاة من القمح بعد أن رافقت جارتها السنة الماضية، "طرف الخبز صعيب ويوميا كا نضرب اكثر من 20 كيلومتر على رجليا باش نجيب مونتي (تموين) و مونت ولادي"، لا تجد "سعاد" حرجا في الدفاع عن عملها هذا، " ربي امر الفلاحين بإخراج عشر منتوجهم كزكاة لفائدة الفقراء والمحتاجين، وأنا وأبنائي من المحتاجين يعني دايزة فينا الزكاة"، تم تخبرنا بكونها في باقي أيام السنة تشتغل كغسالة أواني ببعض مقاهي المدينة لكن خلال فترى الحصاد تكون أمام فرصة جمع كميات من الحبوب تبيع بعضها وتحتفظ بالباقي في بيتها من أجل الاستهلاك.

لا يبدوا الارتياح على ملامح سيدة كانت تسترق السمع لحديث "سعاد" إلينا، قبل أن تشير لنا بأصبعها نحو سيدة أخرى كانت في انتظار وسيلة نقل، "هاديك السيدة مولات الجلابة الكحلة عندها دار ساكنة فيها وجوج ديار كارياهم للطلبة، وكل عام كا تلقاها مغلفة فهاد الحوايج وكا تسابق مع الفقرا على الزكاة" وأضافت "الله بستر وصافي".

لسان حال الحصادة: الله يجعل البركة

الأجواء العامة داخل الحقول خلال عملية الحصاد يغلب عليها الطابع الاحتفالي، في ملامح الفلاحين نلمس الجدية، والفخر بإنجاز عمل أنفقوا الأيام من أجله، لذلك لا يلتفتون كثيرا للجلبة التي تحدث بين الفينة والأخرى عند تسابق "المسايرية" على "عشار" محاصيلهم، يؤكد لنا "سي علي" وهو أحد أكبر الفلاحين بمنطقة أولاد بوزيري بأن ما يمنحه حق للفقراء من منتوجه الزراعي، ويضيف بأنه لا يتضايق من العملية في حد ذاتها لكنه يحس بالألم حين يعلم من أحد عماله بأن عدد كبيرا من طالبات "الزكاة" هن ميسورات في الأصل، "ليس لي أن أعلم ما في النيات أو أطلب من المتقدمات شهادة العوز أو الاحتياج، الله فوقنا ويعلم بأن نيتنا خالصة وهو من يجزي كل شخص على قدر نيته" يضيف "سي علي"، "نحاول منح كل المتقدمات قسطا من الحبوب، وأن نرضي الجميع، الله يبارك".

وعن طريقة الزكاة يؤكد "سي علي" بان الزكاة في الحبوب والثمار واجبة بإجماع العلماء، ويدل على وجوبها قوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)، ويضيف بأن قدر الزكاة الواجب إخراجها من الزروع والثمار يختلف باختلاف طريقة السقيفإن كان يُسقى بلا كلفة ولا مؤونة، كما لو سقي بماء المطر، أو العيون، ففيه العشر.وإن كان يسقى بكلفة ومؤونة، كما لو احتاج آلة ترفع المياه ففيه نصف العشر.