خربوشة .. امرأة من حديد قهرت قياد الاستعمار في حقبة مظلمة من تاريخ المغرب قبل أن يتغنى بها تراث المغرب المعاصر

خربوشة .. امرأة من حديد قهرت قياد الاستعمار في حقبة مظلمة من تاريخ المغرب قبل أن يتغنى بها تراث المغرب المعاصر

كثيرا ما يستمع المولوعون بفن العيطة، وخصوصا العيطة الحصباوية، للفنان الشعبي ولد الصوبة، الذي يجمع بين العزف المنفرد وحفظ المتون القديمة والنصوص الأصيلة لهذا الفن، وهو يصدح بأغنية خربوشة، لكن أغلبهم لا يدركون الحمولة التاريخية لهذه القصيدة. وتعد خربوشة واحدة من كبريات القصص الشعبي بالمغرب، قصة حقيقية وليست متخيلة، صاحبتها امرأة من لحم ودم، تحدت ببسالة كبيرة ظلم وجبروت “قايد القياد” أيام كانت للقياد سلطة الحل والعقد، وحق حجب الشمس وإقبار الناس في ظلمات السجون والأقبية في مغرب الحماية. سنتعرف على الشاعرة الشعبية الأسطورية حادة الزيدية المعروفة بـ “خربوشة ” وعلى سجانها القائد المتسلط عيسى بن عمر، ومن خلالهما على حقبة مظلمة من تاريخ المغرب.

عندما لجأ ليوطي إلى إبداع ما أسماه بسياسة “القياد الكبار” كان يهدف بالأساس إلى الحفاظ على المؤسسات السياسية التقليدية دون أن يثير حساسية المغاربة، فكان ظهور شخصيات، من قبيل بوحمارة والتهامي الكلاوي والمارشال أمزيان والقايد عيسى بنعمر، شخصيات أبانت عن حنكة سياسية طبعت تاريخ المغرب المعاصر.

لقد اعتبر ليوطي فئة القياد جديرة بالاهتمام وهي أفضل طريقة، نظرا لتجذرها القبلي، والنماذج التي برزت خلال هذه الفترة استمدت مشروعيتها من المخزن، وجرد أسلاف هؤلاء القياد يؤكد فرضية العلاقة بين العشيرة والسلطة، ومن ثم وصولهم إلى السياسة التي أعطت قيادا كبارا انطلقوا من المجال القبلي إلى الانخراط في الأحداث السياسية الكبرى التي عرفها المغرب خلال النصف الأول من القرن العشرين.

و يعتبر القايد عيسى بن عمر، وبلا منازع ، من كبار قياد المغرب، ومن أكثرهم مشاركة وتأثيرا في صنع أحداث المغرب عشية عهد الحماية، حتى قال عنه أحد الأجانب العارفين بخبايا المخزن: ينحدر “القايد عيسى بن عمر من عائلة شريفة أرستقراطية، أصلها من عروسيي الساقية الحمراء، اغتنت بالتجارة مع الأجانب عبر ميناء “كاب كانتان” شمال آسفي، وارتقى كعبها الاجتماعي داخل قبيلتها “البحاترة” ومحيطها، مما ساعدها على نسج علاقات متشعبة ومهمة مع سلطات المخزن، كان من ثمارها حيازة أحد أفرادها، وهو أحمد بن عيسى الشياخة، وبعدها بمدة ظفر بقيادة قبيلته “البحاترة” بين سنتي1845و1854، لتستمر هذه الوظيفة متواترة في أهله حتى بعد تاريخ عقد معاهدة الحماية، وذلك في ابني أخيه، القايد محمد بنعمر وشقيقه القائد عيسى بن عمر، فالمنطقة الشاسعة التي تمتد من واد تانسيفت إلى واد أم الربيع حكمها قايد “بحيتري” ، قصير القامة، مهووس بالسلطة حتى النخاع اشتهر ب “قايد الواد” أو “قايد القياد”. إنه القايد العبدي عيسى بن عمر الذي تحول بفعل عوامل متعددة من قائد مغمور إلى قائد مشهور، حيث ذاع صيته من خلال صراع النفوذ بينه وبين قبيلة “أولاد زيد” التي تنحدر منها غريمته الشرسة المعروفة ب”حادة الزيدية

وحادة الزيدية شاعرة محنكة عاشت في نهاية القرن التاسع عشر بمنطقة عبدة، قبيلة أولاد زيد اشتهرت بأسماء متعددة وقد أضفى عليها المخيال الشعبي “قناعا” أسطوريا رفعها إلى مصاف الشاعرات اللواتي قل نظيرهن في مغرب أواخر القرن19 وأوائل القرن 20، تحولت إلى رمز للشجاعة والتضحية من أجل الحرية والعدالة والكرامة، ورمز للمقاومة والصمود في وجه الفساد والطغيان والظلم من خلال تصديها لواحد من أشد قياد مرحلة السيبة بطشا وتسلطا و فسادا، فأرخت بأشعارها لحقبة حرجة من تاريخ المغرب، موردة في متن عيوطها أحداثا وقضايا سكتت عنها الكتب المؤرخة لتلك المرحلة.

فبشخصيتها الكاريزماتية الفريدة انخرطت شاعرتنا مبكرا في الشأن العام ورفضت، أن تبقى مجرد ممثل من الدرجة الثانية ودفعت حياتها ثمنا لمواقفها البطولية، حيث تم وأدها بشكل همجي داخل جدار كما ذهبت إلى ذلك أغلب الروايات، أو في بئر توجد بمنطقة الحصبة لا زال يعرف إلى اليوم باسم “بئر حويدة ” كما جاء في بعض الروايات الأخرى .ومهما اختلفت طرق التصفية فإن حادة الزيدية ستظل رمزا لثقافة الصمود والمقاومة، وستبقى عيوطها الخالدة : «خربوشة» ، «حاجتي في كريني »، «الحصبة»، «كبت الخيل»، شاهدة على جهاز مخزني متخلف أزعجته الأغنية الملتزمة، وأربكته الكلمة الصادقة فجابهها بالقهر والجبروت والطغيان.
إن حكاية خربوشة لم تأت عبثا بل دلالة تراجيديا الدم والانتقام المتبادل في الحركات، فمعاينة ما يجري على أرض الحصبة والتي لم يعد بها إلا الخراب، وكأن نبوءة حادة قد تحققت: حين قالت: دار القايد كالو خلات ومقابلة للمعاشات… وأن “ما يدوم حال” كلمة صادقة فيما جرت به الأحداث، وهي أحداث تنطوي على الكثير من الفواجع، جاءت بها الرؤيا الدرامية لخربوشة في صياغتها البدوية.