شباب يحتجّ.. وحكومة تبحث عن الإقناع

يعيش المغرب في الآونة الأخيرة على إيقاع موجة من “الاحتجاجات الشبابية” التي اجتاحت عدداً من المدن، تعبيراً عن حالة “احتقان اجتماعي واقتصادي” متصاعدة، فالمطالب، وإن تنوّعت شعاراتها بين الصحة والتعليم والتشغيل والكرامة والعدالة الاجتماعية، فإن خيطها الناظم هو “الإحساس المتزايد بالتهميش وفقدان الثقة” في الوعود الحكومية المتكرّرة بتحسين الأوضاع، غير أن المشاهد التي سرقت الأضواء في مختلف المنصات العالمية بشباب واثق وواعي، يلوح بتصريحات موزونة تحت يافطة “سلمية”، سرعان ما انجر إلى المحظور، أو بالأحرى تمت “الركمجة” عليه من طرف مجرمي الداخل والخارج لتمرير انزلاقات حولت احتجاجات الشارع السلمية إلى ساحة حرب استهدفت القوات العمومية ومختلف المنشآت العمومية والخاصة، الشيء الذي دفع الداخلية دون تردد لرفع تعليماتها لكبح جماح أي انزلاق يهدد النظام أو الأمن العامين، وبثر مختلف السموم التي تسربت تحت مسمى “حرية التعبير” عفوا “حرية التخريب”، وإلا كيف يمكن تبرير خروج شباب بمُحَيَّا غير مكشوف نتيجة ارتداء عدد منهم أقنعة “كاغول” لمنع التعرف على هوياتهم.
سادتي الكرام؛
رسالة الشباب أكيد أنها وصلت إلى أعلى مستوى، بل تجاوزت حدود التراب الوطني، فما الجدوى من مواصلة الاحتجاج؟ فهل يملك أي مسؤول بالمغرب، سواء بالأغلبية أو المعارضة أو خارج دواليب الحكومة، خاتم سليمان أو عصى موسى، التي ستجعل من مطالب الشباب قابلة للأجرأة في حينه؟ حيث أن المنطق العقلاني يفرض مهلة للاستيعاب أولا لأن ممثلي حكوماتنا اعتادوا مياه هادئة تفتقد لأي عباب عاتي يتربص بمناصبهم، خاصة بعد تدجين أكبر عدد من ممثلي صاحبة الجلالة، وتجنيد “مؤثري الزليج” لصالحهم، اللهم الذين لم يتذوقوا لذة كعكة ملاعب المونديال أو الو حقهم من التمويلات الإعلانية للحملات الانتخابية لأحزاب التحالف الثلاثي.
صدقا، لم يعد ما يحدث في شوارع المغرب مجرد احتجاجات متفرقة، بل أصبح “صوت جيل كامل” إن لم نقل أجيال يطالبون بالكرامة والإنصاف. شباب من كل الفئات والأعمار والمناطق خرجوا إلى الميادين بصدور عارية وأصوات مبحوحة، يرفعون مطالب بسيطة في ظاهرها، عميقة في جوهرها: الشغل، التعليم، السكن، والحق في حياة تليق بمواطنتهم.
لكن بدل أن تتعامل الحكومة بعقلانية سياسية وبُعد استباقي، فضّلت في كثير من الحالات الردّ الأمني على الصوت الاجتماعي. مشاهد التدخلات القاسية في بعض المدن، وتوقيف عدد من المحتجين، أعادت إلى الأذهان زمن المقاربة الأمنية التي ظن المغاربة أنهم تجاوزوها إلى الأبد، في وقت نجحت المقاربة الأمنية المستعملة في مدن أخرى (سطات، وزان، خريبكة، برشيد، بوزنيقة،…) في امتصاص الغضب الشعبي، والتعامل بروية وتبصر سرعان ما ساهما في إخماد لهيب النيران الوقدة.
في المقابل، اختارت “الحكومة نهجاً مزدوجاً” في التعاطي مع هذه التحركات: خطاب تهدئة ودعوة إلى الحوار من جهة، ومقاربة أمنية مشددة في الميدان من جهة أخرى. ورغم أن السلطات الأمنية أظهرت – في بعض الحالات – قدراً من “الانضباط وضبط النفس”، إلا أن مشاهد التدخلات العنيفة وتوقيف عدد من المحتجين أعادت إلى الواجهة “نقاش حدود الحق في التظاهر” وضماناته القانونية والدستورية.
إن مشهد شباب يطاردهم العنف بدل أن يحتضنهم الأمل، هو صورة تختصر إخفاق السياسات العمومية، التي وُعدوا بها منذ سنوات. فالشعارات الكبيرة عن “النموذج التنموي الجديد” و”الفرص المتكافئة” تحولت في نظر كثيرين إلى “كلمات جوفاء لا تنعكس على واقعهم المرير”.
وإذا كان من السهل على الحكومة أن تبرّر موقفها بالقول إن “الاحتجاجات غير مرخصة” أو أن “هناك من يركب على المطالب”، فإن الأصعب هو أن تعترف بأن “الاحتقان المتصاعد هو نتيجة طبيعية لفشلها في التواصل مع الشباب”، وفي تحويل الخطاب الرسمي إلى إنجازات ملموسة.
سادتي الكرام؛
المؤسف أن “الثقة بين الشارع والمؤسسات تتآكل بسرعة”، ومعها تتراجع صورة السياسة كوسيلة للتغيير، حيث اتضح جليا غياب الأحزاب أو المجتمع المدني كحاضن لهذه الطاقات الشابة، التي وجدت في الشبكات العنكبوتية ملاذا لتواصلها، رغم ما يحف ذلك من مخاطر نفث دخلاء لرسائل العنف والتخريب تحت قناع المطالب الشعبية،
هذه التحركات لم تأتِ من فراغ، بل هي نتاج تراكمات لسنوات من “الخيبات الاقتصادية والانسداد السياسي”، الذي جعل الشباب يشعرون بأن صوتهم لم يعد مسموعاً في مؤسسات الوساطة التقليدية، سواء كانت أحزاباً أو نقابات أو جمعيات. لذلك، لجأ كثيرون إلى الشارع كفضاء وحيد للتعبير عن قلقهم وآمالهم المجهضة.
سادتي الكرام؛
إن ما يجري اليوم يطرح أسئلة عميقة حول علاقة الدولة بالشباب، وحول مدى قدرة النموذج التنموي الجديد على ترجمة وعوده إلى واقع ملموس. فجيل اليوم لا يطالب بالكثير، بقدر ما يطالب بـ “الاعتراف بكرامته وحقه في مستقبل يليق بتعليمه وطموحه”.
إن المغرب اليوم بحاجة إلى “شجاعة سياسية أكثر من أي وقت مضى”، شجاعة تعترف بالأخطاء، وتفتح الأبواب أمام حوار وطني صريح حول الأسباب الحقيقية للاحتجاجات، وحول مستقبل العلاقة بين الدولة وشبابها.
إن المغرب، وهو يقف على عتبة تحولات اجتماعية واقتصادية كبرى، بحاجة إلى مقاربة جديدة تُعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها، وتُثبت أن الإصلاح الحقيقي يبدأ بالاعتراف بالألم قبل البحث عن التبرير.
فمن الخطأ الاعتقاد أن القبضة الأمنية يمكن أن تُخمد نار الغضب، لأن “السكوت القسري لا يعني الهدوء… بل احتقاناً مؤجلاً”.
فرجاء أيها الشباب المحتج، كفى من الوقفات والمسيرات، لقد وصلت رسالتكم بوضوح إلى أصحاب القرار. اليوم، لم يعد أحد في موقع المسؤولية قادراً على تجاهل هذه الرسالة أو التقليل من دلالتها، بعدما كشفت عن عمق التحولات الاجتماعية وتطلعات الجيل الجديد إلى الكرامة والعدالة والفرص المتكافئة. ومع أن الغضب كان واضحاً، فإن المرحلة المقبلة تقتضي الكثير من الصبر والانتظار، لأن الحلول الجذرية لا تُبنى بين ليلة وضحاها، بل يتطلب تنزيلها مقاربة قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، وكاذب من يمكنه التعهد بغير ذلك.