كل عام وأنا بألف خير.. أصالة عن نفسي ونيابة عن جيل بأكمله

في مثل هذا اليوم من سنة 1982، لمست رحم والدتي يد طبيبة صينية كانت عابرة على مستوى أحد أروقة قسم الولادة بمستشفى الحسن الثاني، تدخلت للمساعدة بعدما سمعت أنين والدتي التي تصرخ تحت رحمة آلام المخاض “الطلق”، بعدما رفض الأطباء المغاربة مساعدتها دون رحمة أو شفقة لوضع مولودها الذي لم يكن إلا أنا، فجأة نزلت ضيفا على عائلتي.
أرسلوني إلى الفقيه في الزنقة 11 من حي البطوار، لتعلم القرآن وأبجديات اللغة العربية، بينما كنت في أوقات الفراغ أحارب الملل بالسباحة في الضايات “العوينة والسانية” مشكوك في نظافتها خلف محطة البنزين مكسيكو، أو القفز بالأودية والأشجار، التي كنا عبثا نعتبرها “تحديات” تميز بين الطفل القوي من الجبان، وعندما كنت أجوع أقتلع نبات “الحميضة” لامتصاص سيقانه الحامضة أو أتجه رفقة زملائي من أبناء حي البطوار لضيعة (عرصة فاطمة، العباري…) لاقتلاع الليمون والخضر التي كانت تسقى بواد بوموسى، الذي اكتشفت بعد أن كبرت أنه مخلوط بقنوات الواد الحار في وقت نتخد من عشب بحيرة البطوار ملعبا رحبا لاجراء مقابلات كرة القدم بعد عودتنا، مع حذرنا من الملاحقة من طرف “الزعيم” على متن دراجته النارية أو حارس البحيرة اذي كنا نلقبه بـ “العتروس” قصد إغاضته.
ولجت المدرسة العمومية للتعلم، حيث قرأت “يوسف يمثل هنديا” و”قرد بقرة برتقال” و”مينا جولي مينا”، كنت أنقب في ساحة مدرسة بئرنزران عن النبتة البرية “الحريغة” التي كنت أحكها على قفا زملائي في القسم ليتحولوا من تلاميذ مهذبين إلى بغال ثائرة، مددت يدي الصغيرة المرتجفة لعصا المعلم والتي كنت أتبول عليها ظنا مني أنها ستخفف من آلام “الدقة”، كبرت وسط ذكريات سرعان ما اندثرت في جيلنا.
يوم 31 يناير 1982، خرجت للوجود، ولم أكن أدرك أن مساري في هذه الحياة يشبه بكثير مركبا صغيرا داخل بحر هائج تتقاذفه الأمواج، فتوالت الأيام والعقود، ومحيطي العائلي الصغير بالحي الشعبي البطوار بمدينة سطات، يدعوني إلى التحصيل العلمي بدعوى أن الحصول على الشواهد مفتاح التوظيف في منصب مهم، ولم يكن كل منهم على قناعة كافية أنه سنة 2013 سأتمكن من تحصيل أكبر شهادة أكاديمية وطنية بالمغرب (دكتوراه) وبأرقى الميزات الوطنية وفي تخصص يثير الجدل وطنيا ودوليا (البيئة) ومن المعلمة العلمية لمحمد الخامس بالرباط، مع رصيد موازي من الشواهد العلمية لا يقل قيمة (دبلومين للماستر: الأول في البيئة والثاني في التغير المناخي)، لكن دون الحصول على تلك الوظيفة التي أنا مؤهل نظريا وعلميا ومنطقيا لنيلها.
مرت الأيام حتى وصلت لسنين، عندها استوعبت أن الحصول على وظيفة بالمغرب لا يتطلب كل مساري العلمي والأكاديمي، بل لا يتجاوز وساطة عائلية أو زبونية سياسية لخياطة منصب وظيفي على المقاص يلج له محظوظو هذا الوطن، عندها أدركت أن صرختي الأولى سنة 1982، لم تكن إلا بداية لصرخات مفادها “في بلادي ظلموني” بصوت جماهير الرجاء العالمي أو “هادي بلاد الحكرة..ودموعنا فيها سالو” بصوت الإيلترات الطنجاوية.
استسلمت للأمر الواقع وقررت وضع شواهدي العلمية جانبا أمام هذا الواقع المتناقض، وتفرغت للتفكير في نمط جديد لبناء مستقبلي، فولجت عالم الصحافة الغامض والحافل بالمتناقضات، فذاك جاهل “أمي” لا يعرف فك الخط أو حتى تهجؤ جملة أو كتابتها يرافقني في الندوات الصحفية او يجاورني أثناء التغطية الصحفية، لكني واصلت الدرب لأني عشقت الكلمة من المهد وداعبت القلم داخل كبريات الجرائد الجهوية والوطنية (الورقية والإلكترونية)، فربما يعتبر أهل صاحبة الجلالة أن الصحافة مهنة، لكني لطالما اعتبرتها موهبة لن تتأتى لأي كان، فعز علي أن يسقط اليراع ليستجيب لطيور الظلام، عز علي أن أخفي انسانيتي بأقنعة قذرة، أصريت على أن تبقى الراية مرفوعة والكلمة رائدة، حتى وإن كان الزمن زمن جهل ورداءة، إيمانا مني أن “يوسف” الذي أطلق صرخة في صمت الرحم، قادر على جعل الناس يعشقون الكلمة ويميزون بين ثنايا اللغة المبتذلة والضاد السليمة، قادر على النبش في أغوار الواقع لتقديم الحقيقة للقراء رغم ما يصاحب ذلك من جلبة الأعداء والحاقدين، قادر كذلك على تقديم البشرى للقراء بعودة “السبع السمان” منتصرة على “السبع العجاف”، للانتصار للعلم والمعرفة والحقيقة.
طموح مفتوح ومشروع، تكلل مع مطلع سنة 2021 بقيمة مضافة جديدة، عبر إعلان جامعة ديانا انتل البريطانية منحي شهادة الدكتوراه الفخرية من الدرجة الممتازة مع مرتبة الشرف في مجال “الصحافة والإعلام”، وذلك بعد مناقشة عامة أجرتها الجامعة بالتنسيق مع هيئة الاعتماد البريطانية، لأكون أول اعلامي بعروس الشاوية ينال هذا الشرف.
المهم من هذا وذاك، أني أودع يومه، سنة أخرى من عمري الفاني، وأستقبل عاما آخر، في لعبة ساعات وأيام وشهور عبثية، أغنم منها ببعض ذكريات أسميها “جميلة” على مضض، مقابل جبال من الخدوش والآلام والجراح في مدينة تزداد يوما بعد يوم وحشية وظلما.
سنة ناصعة السواد، شيع فيها “ضمير” الإنسانية إلى مثواه الأخير، أشاهد يوميا، كيف يباد ضمير المسؤول عن بكرة أبيه، نتيجة اكتفائه بالجلوس في مقعده ورفع تعليماته لتنفيذها سوءا كانت سديدة أو مهزوزة، في انتظار انتقاله أو إحالته على التقاعد قصرا، في وقت ضاع مستقبل جيل بأكمله يحلم بغذ أفضل..
كل عام وأنا بخير، مع رجائي هذا العام الذي أقبل، أن تكون النفوس بوعض الدين وبأفعال الخير قد التمست طريق نصرة النفس الأمارة بالسوء للعدول عن أفعالها وسلك أحواض الخير الباقية الدائمة، تمنياتي للمسؤولين بمدينة سطات، والذين يحكمون هنا في مدينتي العزيزة، أن يراعوا شعور المستضعفين، ووضع النقطة لبداية جملة جديدة في تاريخ التدبير الشريف الذي يخدم الإنسانية، رجائي في هذه السنة الجديدة أن تضع الكروب والخطوب أثقالها، وأن يخطو الإنسان كما خطى “أرموسترونغ” على سطح القمر، أن نخطو جميعا خفافا بلا أثقال.
اللهم إني استودعك عام قد قضى من عمري، وأستعين بك على عام قادم، وأوجه صرخة أخرى إلى كل الأصدقاء والأوفياء لشرف الكلمة، ولقداسة الحرف، ولطهر الكتابة، ممن بعثروا بعض حروفهم على حائطي الفايسبوكي أو الواتساب مقدمين تهنئة لي بهذه المناسبة، أهدي هذه الكلمات…. وكل عام وأنتم وأنتن بألف خير قرائي الأوفياء.